وقفت سيدة النساء يوماً على قبر ابيها النبي الاقدس صلوات الله عليهما، وقبضت قبضة من تراب قبره المبارك فشمته ثم بكت وأنشأت تقول: ماذا على مَنْ شمّ تربة أحمدٍ أن لا يشّمَ مدى الزمانِ غواليا ... صُبّتْ عليَّ مصائبٌ لو أنّها صُبّتْ على الأيامِ صِرنَ لياليا ***** ووقف الامام عليّ يوماً على قبر الزهراء صلوات الله عليهما وانشأ يقول: أرى عللَ الدنيا عليَّ كثيرة وصاحبها حتى الممات عليلُ ... لكل اجتماعٍ من خليلينِ فرقة وكلُ الذي دونَ الفراقِ قليلُ ... وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ دليلٌ على أنْ لا يدومَ خليلُ

الاثنين، كانون الثاني ١٩، ٢٠٠٩

حتى يغيروا ,,, الماضي للحاضر (ج 2)

تكملة الجزء الثاني من الموضوع .. مع الأعتزاز
نـــــــــــــــــــــــــزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM

الماضي للحاضر ... قراءة في حلقات
سنعرف الجواب اذا عرفنا مقدار حجم استفادة مثل هؤلاء، حكام جور كانوا او فقهاء بلاط او اقلام بلا ضمير، من هذا التاريخ المزور، فبه يبرر الحكام ظلمهم وجبروتهم لاسكات الشعوب، وبه يسرق فقهاء البلاط عقول الامة ليسيروا خلفهم بلا عقل وادراك، وبه يظل (جيش المثقفين) جالسا على مائدة اللئام من الانظمة الشمولية الاستبدادية التي تتحكم برقاب ومعاش الناس ظلما وعدوانا.
انهم يبررون واقعهم الشنيع بالتاريخ المزور، ولذلك يرفضون التنبيه اليه، وتصحيحه، فالحاكم الفاسق يبرر شرعية حكمه بفسق (خليفة المسلمين وامير المؤمنين) يزيد بن معاوية، والانظمة الوراثية تبرر شرعيتها به كذلك، واللصوص المسلحون (قادة الانقلابات العسكرية) يبررون فعلتهم الشنيعة بافعال (خلفاء المسلمين) الامويين والعباسيين والعثمانيين الذين كانوا يتقاتلون فيما بينهم للاستيلاء على السلطة، فكان الولد يتآمر على ابيه، ويقتل الاخ اخيه والام احد ولديها لتمكن الاخر من الجلوس على عرش الخلافة (الاسلامية).
انهم يوظفون اسوا التاريخ لتبرير اسوا الواقع، فتراهم، مثلا، يتشبثون بشرعية الطريقة التي تسمى بـ (القهرية) لتولي (الخلافة) وهي التي ينالها صاحبها بالقهر والغلبة والقوة والبطش، لتبرير تسلطهم على رقاب الشعوب بالقهر والقوة والانقلابات العسكرية، فلا احد يتحدث عن صندوق الاقتراع او الديمقراطية او مبدا التداول السلمي للسلطة، او مبدا تكافؤ الفرص في تولي السلطة، واذا حاول شعب من الشعوب ان يجرب كل ذلك انهالوا عليه بالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة لتدمير تجربته التي يظنون انها ستكون نموذجا يفسد عليهم احلامهم السلطوية، كما هو الحال بالنسبة للشعب العراقي الابي، الذي صمم على تغيير المعادلة والانعتاق من ربقة الانظمة الاستبدادية الشمولية والديكتاتورية التي تعتمد حكم الاقلية، او السرقات المسلحة (الانقلابات العسكرية).
ولقد كدت مرة ان انفجر من الضحك واموت، وانا اقرا لاحد (مثقفي البلاط) مقالا يبرر فيه ما سمي بنظام البيعة الذي صدر العام الماضي في المملكة العربية السعودية، والخاص بتنظيم عملية نقل السلطة بين امراء الاسرة الحاكمة، بقصة (السقيفة) في التاريخ، محاولا اقناع القارئ بان شرعية هذا النظام مستمدة من شرعية (السقيفة).
وهكذا هي الانظمة غير الشرعية الحاكة في بلداننا الاسلامية ومنها العربية، التي تسخر الاقلام الماجورة من اجل تزوير الحقائق، وتاليا توظيف هذا التزوير لتبرير واقعها، واضفاء الشرعية عليها، ولذلك ذم ائمة اهل البيت عليهم السلام وفضحوا الفقهاء الذين تقربوا من السلطات الظالمة، الاموية تحديدا، وقاموا بتاويل النصوص الدينية لتكون اداة لتبرير السياسة الظالمة التي تسير عليها السلطات المنحرفة.
اعرفتم الان لماذا يرفضون المس بالتاريخ المزور؟ ولماذا نراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها اذا ما غمزباحث منصف بقناة هذا التاريخ؟.
اننا اذا اردنا ان نستفيد من التاريخ، علينا ان لا نقراه تقديسا او تعسفا، بل تعلما، على حد قول علي بن ابي طالب عليه السلام، الذي قال لسائل ساله عن معضلة {سل تفقها، ولا تسال تعنتا}، والا {ما اكثر العبر واقل الاعتبار} على حد قوله عليه السلام.
ثالثا: ان من غير المنطقي ان نظل اسرى الماضي، وسجناء التاريخ الغابر، بل يجب ان يكون التاريخ بالنسبة لنا منطلقا للمستقبل من خلال الحاضر، ولا يمكننا ان نحقق ذلك الا بحركة وعي حقيقية للتاريخ، لنستحضره دروسا وعبرا وليس قصص وروايات نتغنى بها.
وبتدبر سريع لكل الايات الكريمة التي تتحدث عن تاريخ الرسل والانبياء وقصص الامم والشعوب والقرون الماضية، سنلحظ انها تنتهي بالعبارات التالية {لقوم يتفكرون} {لقوم يعتبرون} {لاولي الالباب} وغيرها من العبارات التي تدلل بشكل واضح على الوعي المستند على العقل المنفتح غير المنغلق، القادر على استيعاب الماضي دروسا للحاضر والمستقبل، فلقد لخص القران الكريم فلسفة سرد التاريخ في آياته بقوله عز وجل في الاية 176 من سورة الاعراف {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} وفي الاية 111 من سورة يوسف {لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب}.
ان كل قصة تاريخية او واقعة او حدث تاريخي، يجب ان يكون له اثرا في حياتنا، فاما ان يقربنا من نجاح او يجنبنا فشلا، بمعنى آخر، يجب علينا ان نرتب اثرا على ما نقراه من التاريخ، بما يحسن من حياتنا وبما يقلل من خسائرنا ومصائبنا، فالتاريخ محذر امين وان {من حذرك كمن بشرك} كما يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.
يجب ان يكون التاريخ بالنسبة لنا هو التحدي الاكبر لاحداث التغيير المطلوب، وصدق امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام عندما قال {قد بصرتم ان ابصرتم، وقد هديتم ان اهتديتم، واسمعتم ان استمعتم} بمعنى آخر، فان التاريخ يمكن ان يكون هاديا لنا ان كانت عندنا ارادة الاستيعاب بعيدا عن الحب والبغض، او التفقه والتعنت.
وان تحقق كلمة (يتفكرون) الواردة في الاية السابقة الذكر، يتم من خلال قراءة التاريخ بعقول الحاضر، وحاجاته وضروراته وادواته ومتطلباته.
نحن لا نريد التاريخ قصصا للعبث واللهو او لتضييع الوقت، كما اننا لا نريده ان يخدرنا لننام على طريقة قصص جداتنا العجائز اللائي يقصصن القصص ليغفو عليها الصغار، ابدا، بل اننا نريد التاريخ كهزة توقظنا من النوم ونصحو عليها من غفوتنا التي طالت كثيرا، حتى عدنا في آخر قافلة المجتمع البشري وعلى مختلف الاصعدة.
تعالوا نقاطع التاريخ الذي لا يؤثر في حياتنا اليومية، ولا نعير اهتماما للماضي الذي لا نلمسه دروسا وعبرا للحاضر، ونضرب بوجوهنا صفحا عن كل قصة من التاريخ لا نجد فيها ما يساعدنا على انجاز افضل او نجاح جديد.
فالتاريخ الذي بهذه الصفات، نوع من العبث الذي يجب ان لا نشغل انفسنا به.
رابعا: ولان التاريخ تجارب وعبر، لذلك علينا ان نقراه بطريقة جديدة، تساعدنا على ترتيب الاثر المطلوب منه على حياتنا اليومية.
ارايتم بعض الناس الذين يقراون التاريخ لا ليستفيدوا منه وانما ليفتخروا به او لينتقصوا به من الاخرين، تعييرا او ذما، وما ينفعنا ذلك؟.
اننا بحاجة ماسة الى اعادة صياغة طريقة فهمنا للتاريخ، وليس فقط بحاجة الى اعادة قراءة التاريخ.
ومن اجل تحقيق هذا الامر، علينا ان نقرا التاريخ ببصيرة، فلا نصدق كل ما نقراه ولا ننقل كل رواية تسردها كتب التاريخ، ولا نجمد عقولنا على ما نقراه حرفيا، بل يجب ان نناقش ما نقرا ونحاور ما نسمع، والا فسنتحول الى (نقالة) للتاريخ والحديث والقصص ليس اكثر، فنصدق كل ما نقرا ونسمع، واذا ما اصطدم بعضه او كله بمتبنياتنا وثوابتنا، كذبنا الحقيقة وصدقنا ما قراناه، على طريقة ذاك الذي صادف صديقه في طريقه، فساله متعجبا، اانت فلان؟ فاجابه نعم، فرد عليه، ولكن قيل لي بانك قد مت؟ فاجابه صاحبه، ولكنك تراني امامك بلحمي وعظمي، فرد عليه الرجل، ولكن الذي نقل لي الخبر ثقة لا يكذب؟.
ايها الباحثون، ايها الكتاب، ايها الخطباء، ايها العلماء، رحمة برسول الله (ص) لا تنقلوا عنه كل ما يخطر ببالكم، من روايات ضعيفة وقصص هزيلة تطعن به وتسفه ديننا اكثر من ان تخدمه، كذلك، رحمة بالحسين عليه السلام، فلا تنقلوا كل شاردة وواردة عن كربلاء وعاشوراء مما يوهن التشيع ويقلل من قدر النهضة الحسينية.
دققوا بما تريدون ذكره على المنابر، ومحصوا ما تريدون سرده في المجالس، فانها، والله، لمسؤولية عظمى ستحاسبون عليها يوم القيامة اذا ما تحولتم الى سبب لوهن المذهب وتضعيف الطائفة والتقليل من شان الدين ورسوله.
ان العالم اليوم بات قرية صغيرة، وان من يرتقي المنبر في حسينية يشاهده العالم عبر الفضائيات، ولذلك يجب ان ينتبه الخطيب الى ما يقول، ويحسب لكل حرف حسابه قبل ان ينطقه، فهو اليوم لم يتحدث الى فئة معينة معروفة بولائها لما يريد قوله، بل ان العالم يسمعه، ولذلك يجب ان يكون كلامه موزونا من الناحية الشرعية والعقلية والمنطقية ليؤثر في كل المستمعين، او هكذا يفترض، وان لم يكن شيعيا او حتى مسلما.
ان في كتب التراث والحديث والتاريخ ما يندى له الجبين، مما روي عن رسول الله (ص) فاذا اردنا ان نتحدث به على علاته فسنظلم رسول الله (ص) ايما ظلم، وسنوهن الاسلام ايما وهن، ولذلك كله يجب ان نتعامل مع التاريخ بعقل ودراية ومنطق، وبفلترة ذاتية، كل حسب قدراته العلمية.
ان التاريخ تجربة انسانية، وهو ليس مقدسات او نصوص سماوية، ولذلك فاذا تعارض مع العقل او المنطق او السياق العام، او حتى مع متبنياتنا، يجب ان نضربه عرض الحائط ، شرط ان نكون من ذوي الاختصاص، اذ لا يحق لكل من هب ودب ان ينتقي من التاريخ ما يشاء ويرفض ما يشاء، والا لما بقيت قيمة للتاريخ ابدا.
يجب علينا ان نقرا النصوص التاريخية، بالطريقة التي امرنا بها امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام الذي يقول {اعقلوا الخبر اذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فان رواة العلم كثير ورعاته قليل} وكذلك قوله عليه السلام {عليكم بالدرايات لا بالروايات} فان {همة السفهاء الرواية، وهمة العلماء الدراية} على حد قوله عليه السلام.
اذن، نحن بحاجة الى ان نقرا تاريخ الماضين ونفهمه ونعيه كما وعاه امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، والذي يصفه بقوله لابنه الامام الحسن السبط عليه السلام في وصيته له {اي بني، اني وان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في اعمالهم، وفكرت في اخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كاحدهم، بل كاني بما انتهى الى من امورهم قد عمرت مع اولهم الى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل امر نخيله، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورايت حيث عناني من امرك ما يعني الوالد الشفيق، واجمعت عليه من ادبك ان يكون ذلك وانت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية}.
وبهذه الطريقة سيكون للتاريخ اثره على حاضرنا ومستقبلنا، وبها سنرتب اثرا على كل ما نقراه من التاريخ، وبها سوف لن نتوقف عند الماضي وانما سيتحول الى اثر يساهم في تغيير حالنا الى الافضل والاحسن.
خامسا: ان التاريخ وحدة واحدة، وكل لا يتجزا، لا يجوز لنا ان نقطع اوصاله، فناخذ ما نحب ونترك ما لا نحب او نكره، او ان نتداول ما يعجبنا ونطمس اثر ما لا يخدم مصالحنا.
علينا ان نستحضر التاريخ، كل التاريخ، من اجل حاضر افضل ورؤية مستقبلية واعدة، وهذا بحاجة الى ان نقبل به ككل غير مجزأ، لنفهم دروسه بشكل صحيح، وبهذا فقط سيكون التاريخ من اجل التغيير.
ان البعض منا يجزئ كتاب التاريخ الى فصول يوزعها على جيوب بدلته، يستل منها ما يريد عند الحاجة، وبما يخدم مصالحه ويثبت به صحة ما يريد قوله للناس، وهذا امر خطا وخطير في نفس الوقت، فهي طريقة ماكرة للي عنق التاريخ بما يخدم الذات وليس المصلحة العامة.
اخيرا، احفظوا هذه الحكمة على لساني:
فالامة التي تتعامل مع التاريخ بعين الحاضر، لا يتكرر عندها التاريخ، ولذلك فهي في تقدم مستمر، اما الامة التي تقدس تاريخها وكانه لوحة زيتية معلقة على الجدار تتبرك بها الاجيال، فترفض المساس به او نقده، لهي امة يعيد التاريخ نفسه معها كل مرة، ولذلك تبقى متاخرة لا تتقدم ابدا.
الامة الاولى تقبل التجديد والتغيير والتطوير، فهي (لا تلدغ من جحر مرتين) اما الثانية، فهي امة {انا وجدنا} عصية على التغيير ابدا، ولذلك فهي (تلدغ من جحر مليون مرتين) فمن ايهما نحن؟.

17 كانون الثاني 2009
يتبع

ليست هناك تعليقات: