وقفت سيدة النساء يوماً على قبر ابيها النبي الاقدس صلوات الله عليهما، وقبضت قبضة من تراب قبره المبارك فشمته ثم بكت وأنشأت تقول: ماذا على مَنْ شمّ تربة أحمدٍ أن لا يشّمَ مدى الزمانِ غواليا ... صُبّتْ عليَّ مصائبٌ لو أنّها صُبّتْ على الأيامِ صِرنَ لياليا ***** ووقف الامام عليّ يوماً على قبر الزهراء صلوات الله عليهما وانشأ يقول: أرى عللَ الدنيا عليَّ كثيرة وصاحبها حتى الممات عليلُ ... لكل اجتماعٍ من خليلينِ فرقة وكلُ الذي دونَ الفراقِ قليلُ ... وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ دليلٌ على أنْ لا يدومَ خليلُ

الجمعة، أيلول ١٨، ٢٠٠٩

حتى لا نظلم عليّ بن أبي طالب ونُحرم من عطائه

بسم الله الرحمن الرحيم

يظهر من كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه أنه عاش غربة بين قومه، لجهلهم بمقامه الشريف ونزوعهم الى حب الدنيا التي تزيّنت وتزخرفت بسبب اتساع رقعة الدولة الاسلامية وكثرة وارداتها فانساقوا وراء الشهوات فكان (ع) يوبخ أصحابه ويستعمل كل الوسائل لإيقاظهم واستنهاض هممهم ووعي مسؤولياتهم في طاعته (ع) واتباع أوامره، قال (ع) (ايها الناس إني قد بثثت لكم المواعظ التي وعظ الأنبياء بها أممهم، وأديتُ اليكم ما أدّتِ الأوصياء الى من بعدهم، وأدَّبتكم بسوطي فلم تستقيموا، وحدوتكم بالزواجر فلم تستوثقوا، لله أنتم! أتتوقّعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم الى السبيل؟
الا انه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبرا، وأزمعَ الرجالَ عبادُ الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثيرٍ من الآخرة لا يفنى)(2)
وازدادت غربته حينما فَقَد خُلّص اصحابه العارفين بفضله وسابقته الى كل كمال حيث استشهد كثير منهم في صفين فكان (ع) يرتقي منبر مسجد الكوفة ويندبهم اشجى ندبة ويصفهم أجمل وصف فيقول (ع):
(ما ضرّ اخواننا الذي سُفكت دماؤهم –وهم بصفين- ألاّ يكونوا اليوم أحياءاً؟ يسيغون الغصص ويشربون الرنق! قد –والله- لقوا الله فوفّاهم أجورهم، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ واين ذو الشهادتين؟ واين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنية وابرد برؤوسهم الى الفجرة (ثم ضرب بيده على لحيته الكريمة فأطال البكاء ثم قال) أوّهِ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، احيوا السنة وأماتوا البدعة، دُعُوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه)(3).
وكان (ع) كثيراًَ ما يتمنى الموت للتخلص من مجاورة اللئام والذهاب الى صحبة الكرام الأحبة محمد وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) وأصحابه المنتجبين، ومن كلماته في ذلك:
(ولوَددتُ أن الله فرّق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحقّ بي منكم)(4) لأنه يرى نفسه يعيش وسط حثالة لا يذكرون الا بالذم قال (ع) (أين أخياركم وصلحاؤكم واين أحراركم وسمحاؤكم! واين المتورعون في مكاسبهم. والمتنزّهون في مذاهبهم؛ اليس قد ظعنوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنية، والعاجلة المنغصّة، وهل خُلفتم الا في حثالة، لا تلتقي الا بذمِّهم الشفتان، استصغاراً لقدرهم، وذهابا عن ذكر هم؛ فإنّا لله وإنا اليه راجعون.)(5).
وكان يأسف (ع) أن ينفضَّ الناس عن الهدى المتمثل به ولا تبقى تحت سيطرته من رقعة الدولة الاسلامية الكبيرة الا الكوفة فيقول (ع) (ما هي الا الكوفة، أقبضها وابسطها، إن لم تكوني الا أنتِ، تُهبُّ اعاصيرك فقبّحكِ الله)(6)
ويستغرب منهم حين يعصونه وهو الحق بينما يتفانى اصحاب معاوية في طاعته وهو إمامهم الى الضلال فيقول (ع) (صاحبكم يطيع الله وانتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه لَوَددتُ والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فاخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم.واني لعلى بينةٍ من ربي ومنهاج من نبيي، وإلي لعلى الطريق الواضح ألقُطُه لقطا) (7).
ويسبب ذلك فقد تنبأ بضياع دولتهم ونجاح دولة معاوية فقال (ع) (وإني والله لأظنُّ أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم امامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم.)(8)
وقال (ع) (اما والذي نفسي بيده، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم اولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم،وإبطائكم عن حقي، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحتُ أخاف ظلم رعيّتي)(9)
وكان كل أسفه (ع) لانه يعلم بحقائق الامور وعواقبها ومصير كل فريقٍ وهو القائل (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً) ولكن أنى لتلك القلوب القاسية والعقول المغلوبة بالهوى أن تبصر بعين الحقيقة قال (ع) (ولو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه، إذاً لخرجتم إلى الصُعُدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون –ضرب الصدر للنياحة- على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا خالف عليها- ولهمّت كلَّ امرئٍ نفسُه، لا يلتفت الى غيرها، ولكنكم نسيتم ما ذكِّرتم، وأمِنتم ما حُذِّرتُم، فتاه عنكم رأيُكم، وتشتّت عليكم امركم.)(10) فأسفه وحسرته كانت امتداداً لقول الله تبارك وتعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)(11) .
هذه بعض كلمات أمير المؤمنين نقلناها لنحسَّ بمشاعره (عليه السلام) في غربته حتى كان يقول وهو يشير الى صدره المبارك (إن هاهنا علماً جماً لو أصبت له حملة) لكن اصحابه ضيّعوه ولم يعرفوا قدره ولم يستفيدوا منه فظلموا أنفسهم وظلموه إذ حرموه من أن يقدّم عنده قال (ع) (ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي)(12)
وعلينا –نحن شيعة علي (ع)- اليوم ان لا نظلمه كما ظلمه أصحابه وان لا نحرم أنفسنا من عطائه كما فعل أصحابه، فانه وان غاب بشخصه الشريف عنا، الا انه حاضر بيننا بكلماته ومواعظه وخطبه وسلوكه وسيرته وعلمه وجهاده وإخلاصه وإيثاره وفنائه في الله تبارك وتعالى وغيرها من الكمالات

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الى الجحيم احمد الكردي