نصير حيدر لازم – إعلامي عراقي
-1-
في الليل إذ تنام البيوت ، ويسكن الصمت الشوارع ، ويسدل الظلام غشاوته على أفق بغداد ، يلوح القمر من نافذتي حزينا ، فألملم بقايا السهر بالهموم ، فلا أرى إلا غبار السماء ينفذ من بين وريقات الأشجار التي أنهكها الظمأ ، ومصابيح معطلة ، اطفأها الزمن بعد أن مات الأنسان في بلدي ..
وأمضي الساعات مستوحشا في نافذتي ، وصدأ الحياة والموت المجاني يتدافع في ذاكرتي ، صخبا ، ويقفز المتنبي عنوة فيستفزني : " يا أمة ضحكت من جهلها الأمم " ..
وفجأة ينتهي حلم يقظتي على دوي مهيب ، وصفير سيارة مسرعة ، تليها أخرى ، وثمة فرقعات من بنادق عفى عليها الدهر ، تنذر الناس بإخلاء الطرقات للقتلى ، ولا أحد هناك ، والليل ينتصف بهذه الصحراء المعتمة ، ويتلاشى الصوت بعيدا ، بعيدا ، وتمر عربات محملة بعساكر ، تجوب ما تبقى من الشوارع التي باتت حجارة وشوائك أسلاك ونفايات وأشلاء قطط مقطعة ، أشباح في هياكل جنود تطوعوا لكسب الرزق أولا ، ومن ثم ليحموا الوطن الجائع ..
وينتهي المشهد على عوىّ الكلاب وقد إستجبنتها الأيام ، أستشعرت بالإعياء ، لكن دوّي المروحية إخترق رأسي وكأنه قد أحرق دمي ، وتلاشى الصوت بعد أن إهتزت له الأرواح والشبابيك والأبواب المقفلة بحذر ، فأغلقت نافذتي ، مستديرا صوب فانوس خافت تسقط بعضٌ من أضوائه الخافتة على قرآن الله ، فكانت الآية : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ..
-2-
سنين عجاف ، وكل الألوان أخذت تختفي حتى لون القمر نسيناه مثلما نسينا أنفسنا في زحمة الموت والعطش والظلام ، وترى الناس سكارى غارقين في بحر الّلأواء من قيظ تموز وآب الجحيم ، تراهم يزدحمون حول كل شيء مفقود في سوق العراق العظيم ، ولا يحصلون على شيء إلا الوهم ، وإلا سماع مترادفات لا تنتهي من المصطلحات السياسية التي لم يعد يستمرؤها حتى البدوي المنكفيء على ناي العتابة بعيدا عن مدن الضياع بأرض النهرين التي تصحرت من كل شيء .
لم يعد هناك أبجدية ما لمعنى الوطنية ، طالما إن القبيلة جائعة من دون وطن ، وإن شيخها لا حكمة له ، لولا هذه العزة المؤقتة التي يستند إليها ذليلا فاغراً فاه ، على شيء من أوراق خضراء وكأس مهين .
إيهٍ يا بلدي "لست أنت حقيبة" يحملها اللئام .
إيهٍ يا أرانب "مفتحة عيونهم نيام" .
إيهٍ يا حسين ، كم مرة تقتل بسيوف النفاق ، لماذا جعلوك سيدي حكاية يتلهى بها المبطلون زمن الإصطياد الرخيص بعكر المياه . وتراهم يتغنون "موطني" ؟! وكل ما كان وما لمّا يكن نهبا مشاعا يا وطن .
وتراهم عراة حتى من أنفسهم ، لكنهم اعتادوا أنفسهم ، يلهثون وراء السراب ، حتى أجل معلوم ..
كنا صغارا ننشد براءة : ( يا جماعة والنبي والله عدنا بستان ) . حتى كفرنا بأنفسنا ضجرا من هذا البستان الذي لم نذق طعما من ثمره قط إلا حصرم الأماني ، واكتشفنا إذ كبرنا لعبة البستان من أين تبدأ ، وأين تنتهي ؟؟!
وإذ تعجب فلا عجب عليك !! يوم لم يفزع الناس للوطن ، فقد قالها أبو نؤاس في سكره الواعي منذ عشرات عقود خلت :
لا أذود الطير عن شجر قد بلوت المر من ثمره
ومن أجل هذا كان الوطن مزادا بلا مروءة ... ومن أجل هذا مات أبي .. ومن أجل هذا أستـُشهِدَ رياض السراي ..
* الـّلأواء : ضيق المعيشة وشدة المرض
Naseer H. Lazim
Political Programs Presenter
Iraqi Media Network
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق